فصل: تفسير الآيات رقم (49- 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قال أبو مجلز‏:‏ أهل الأعراف هم الملائكة وهم القائلون ‏{‏أهؤلاء‏}‏ إشارة إلى أهل الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكذلك يجيء قول من قال أهل الأعراف أنبياء وشهداء، وقال غيره‏:‏ أهل الأعراف بشر مذنبون، وقوله‏:‏ ‏{‏أهؤلاء‏}‏ من كلام ملك بأمر الله عز وجل إشارة إلى أهل الأعراف ومخاطبة لأهل النار، وهذا قول ابن عباس، وقال النقاش‏:‏ لما وبخوهم بقولهم ‏{‏ما أغنى عنكم جمعكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 48‏]‏، أقسم أهل النار أن أهل الأعراف داخلون النار معهم فنادتهم الملائكة ‏{‏أهؤلاء‏}‏، ثم نادت أصحاب الأعراف ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏، وقال بعض المتأولين‏:‏ الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبأ بهم قيل لهم ادخلوا الجنة، وقد تقدم ما قال النقاش من أن القسم هو في الآخرة على أهل الأعراف، وقرأ الحسن وابن هرمز «أدخِلوا الجنة» بفتح الألف وكسر الخاء معنى أدخلوا أنفسكم، أو على أن تكون مخاطبة للملائكة ثم ترجع المخاطبة بعد إلى البشر في ‏{‏عليكم‏}‏، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس «دخلوا الجنة» على الإخبار بفعل ماض، وقرأ طلحة بن مصرف وابن وثاب والنخعي «أُدخلوا الجنة» خبر مبني للمفعول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وترتيب كل قراءة من هذه على الأقوال في المخاطب والمخاطب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهؤلاء‏}‏ ممكن بأيسر تناول فاختصرته إيجازاً، وكذلك ما في الآية من الرجوع من مخاطبة فريق إلى مخاطبة غيره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏ معناه‏:‏ لا تخافون ما يأتي ولا تحزنون على ما فات، وذكر الطبري من طريق حذيفة أن أهل الأعراف يرغبون في الشفاعة فيأتون آدم فيدفعهم إلى نوح ثم يتدافعهم الأنبياء عليهم السلام حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم فيشفع فيدخلون الجنة فيلقون في نهر الحياة فيبيضون ويسمون مساكين الجنة، قال سالم مولى أبي حذيفة‏:‏ ليت أني من أهل الأعراف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة‏}‏ الآية، لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وقع لهم علم بأن أهل الجنة يسمعون نداءهم، وجائز أن يكون ذلك وهم يرونهم بإدراك يجعله الله لهم على بعد السفل من العلو، وجائز أن يكون ذلك وبينهم السور والحجاب المتقدم الذكر، وروي أن ذلك النداء هو عند إطلاع أهل الجنة عليهم، و‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أن أفيضوا‏}‏ مفسرة بمعنى أي، وفاض الماء إذا سال وإنماع وأفاضه غيره، وقوله‏:‏ ‏{‏أو مما رزقكم الله‏}‏ إشارة إلى الطعام قاله السدي، فيقول لهم أهل الجنة إن الله حرم طعام الجنة وشرابها على الكافرين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأشنع على الكافرين في هذه المقالة أن يكون بعضهم يرى بعضاً فإنه أخزة وأنكى للنفس، وإجابة أهل الجنة بهذا الحكم هو عن أمر الله تعالى، وذكر الزهراوي‏:‏ أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أفضل الصدقة بالماء»، يعني عند الحاجة إليه إذ هو ألذ مشروب وأنعشها للنفس، واستسقى الشعبي عند مصعب فقال له أي الأشربة تحب‏؟‏ فقال أهونها موجوداً وأعزها مفقوداً، فقال له مصعب‏:‏ يا غلام هات الماء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً‏}‏ الآية، أضيف «الدين» إليهم من حيث قولهم أن يلتزموه إذ هو دين الله من حيث أمر به، ودين جميع الناس من حيث أمروا به، ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ يحتمل أن يكون من كلام أهل الجنة، ويكون ابتداء كلام الله من قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏، ويحتمل أن يكون الكلام من أوله من كلام الله عز وجل، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏اتخذوا دينهم لهواً‏}‏ أي بالإعراض والاستهزاء لمن يدعوهم إلى الإسلام، ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ أي خدعتهم بزخرفها واعتقادهم أنها الغاية القصوى، ويحتمل أن يكون اللفظ من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم وأبطرتهم، وأما قوله ‏{‏فاليوم ننساهم‏}‏ فهو من إخبار الله عز وجل عما يفعل بهم، والنسيان في هذه الآية هو بمعنى الترك، أي نتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم، قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين، قال قتادة نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة ذكر الله تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا‏}‏ عطف على «ما» من قوله‏:‏ ‏{‏كما نسوا‏}‏ ويحتمل أن تقدر ‏{‏ما‏}‏ الثانية زائدة ويكون قوله‏:‏ «وكانوا» عطفاً على قوله ‏{‏نسوا‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جئناهم بكتاب‏}‏ الآية، ذكر الاعذار إليهم إثر ذكر ما يفعل بهم واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لقد‏}‏ لام قسم والضمير في ‏{‏جئناهم‏}‏ لمن تقدم ذكره، وقال يحيى بن سلام تم الكلام في ‏{‏يجحدون‏}‏ وهذا الضمير لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن العزيز‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون اسم جنس في جميع الكتب المنزلة على تأويل من يرى الضمير في ‏{‏جئناهم‏}‏ لمن تقدم ذكره، وقرأ جمهور الناس «فصلناه» من تفصيل الآيات وتبيينها، وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بضاد منقوطة، و‏{‏على علم‏}‏ معناه‏:‏ عن بصيرة واستحقاق لذلك، وقوله ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ مصدران في موضع الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏ينظرون‏}‏ معناه ينتظرون، و«التأويل» في هذا الموضع بمعنى المآل والعاقبة، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏تأويله‏}‏ مآله يوم القيامة، وقال السدي‏:‏ ذلك في الدنيا وقعة بدر وغيرها ويوم القيامة أيضاً، والمراد هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا مآل الحال في هذا الدين وما دعوا إليه وما صدروهم عنه وهم يعتقدون مآله جميلاً لهم‏؟‏ فأخبر الله عز وجل أن مآله يوم يأتي يقع معه ندمهم، ويقولون تأسفاً على ما فاتهم من الإيمان لقد صدقت الرسل وجاءوا بالحقن فالتأويل على هذا مأخوذ من آل يؤول، وقال الخطابي‏:‏ أولت الشيء رددته إلى أوله فاللفظة مأخوذة من الأول، حكاه النقاش‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد قيل أولت معناه طلبت أول الوجوه والمعاني و‏{‏نسوه‏}‏ في الآية يحسن أن يكون النسيان من أول الآية بمعنى الترك ويقرون بالحق ويستفهمون عن وجوه الخلاص في وقت لا مستعتب لهم فيه، وقرأت فرقة‏:‏ «أو نردُّ» برفع الفعل على تقدير أو هل نرد وبنصب «فنعملَ» في جواب هذا الاستفهام الأخير، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو نردُّ فنعملُ» بالرفع فيهما على عطف «فنعمل»، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «أو نردَّ فنعمل» ونصب نرد في هذه القراءة إما على العطف على قوله‏:‏ ‏{‏فيشفعوا‏}‏ وإما بما حكاه الفراء من أن «أو تكون» بمعنى حتى كنحو قول امرئ القيس‏:‏

أو نموت فنعذرا *** ويجيء المعنى، أن الشفاعة تكون في أن يردوا ثم أخبر تعالى عن خسارتهم أنفسهم واضمحلال افترائهم على الله وكذبهم في جعل الأصنام آلهة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام‏}‏ الآية، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم اللهَ» بنصب الهاء، وقوله ‏{‏في ستة أيام‏}‏ حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة، ثم بقي دون خلق يوم السبت، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون‏.‏

ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استوى على العرش‏}‏ معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفاً له إذ هو أعظم المخلوقات، وقال سفيان الثوري‏:‏ فعل فعلاً في العرش سماه استواء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و‏{‏العرش‏}‏ مخلوق معين جسم ما، هذا الذي قررته الشريعة، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال‏:‏ العرش مصدر عرش يعرش عرشاً، والمراد بقوله ‏{‏استوى على العرش‏}‏ هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُغشي» من أغشى، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يعشّي» بالتشديد من غشّى، وهما طريقان في تعدية «غشي» إلى مفعول ثان، وقرأ حميد «يغَشَى» بفتح الياء والشين ونصب «الليلَ» ورفع «النهارُ»، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليلُ»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأبو الفتح أثبت و‏{‏حثيثاً‏}‏ معناه سريعاً، و‏{‏يطلبه حثيثاً‏}‏ حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة، ومن النهار بحسب المعنى، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين، ويحتمل أن يكون حالاً منهما، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتت به قومها تحمله‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 27‏]‏ فيصح أن يكون ‏{‏تحمله‏}‏ حالاً منها، وأن يكون حالاً منه وأن يكون حالاًَ منهما و‏{‏مسخرات‏}‏ في موضع الحال، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و«الشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» بالرفع في جميعها، ونصب الباقون هذه الحروف كلها، وقرأ أبان بن تغلب و«الشمسَ والقمرَ» بالنصب، و«النجومُ مسخراتٌ» بالرفع‏.‏

و ‏{‏ألا‏}‏ استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأخذ المفسرون ‏{‏الخلق‏}‏ بمعنى المخلوقات‏.‏ أي هي له كلها وملكه واختراعه، وأخذوا ‏{‏الأمر‏}‏ مصدراً من أمر يأمر، وعلى هذا قال النقاش وغيره‏:‏ إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن تؤخذ لفظة ‏{‏الخلق‏}‏ على المصدر من خلق يخلق خلقاً أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ ‏{‏الأمر‏}‏ على أنه واحد من الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله ‏{‏وإليه يرجع الأمر كله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ وبمنزلة قوله ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن ‏{‏له الخلق والأمر‏}‏ المصدرين حسب تقدمهما، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئاً من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏»، قال النقاش‏:‏ ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعاً في جميعها أنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق، وقال الشعبي ‏{‏الخلق‏}‏ عبارة عن الدنيا و‏{‏الأمر‏}‏ عبارة عن الآخرة، و‏{‏تبارك‏}‏ معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله تعالى، و‏{‏تبارك‏}‏ لا يتصرف في كلام العرب، لا يقال منه يتبارك، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلة ذلك أن ‏{‏تبارك‏}‏ لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلاً إذ الله قد تبارك في الأزل، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك فوقف على أن العرب، لم تقله، و«الرب» السيد المصلح، و‏{‏العالمين‏}‏ جمع عالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

هذا أمر بالدعاء وتعبد به، ثم قرر عز وجل بالأمر به صفات تحسن معه، وقوله‏:‏ ‏{‏تضرعاً‏}‏ معناه بخشوع واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، ‏{‏وخفية‏}‏ يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله عز وجل على ذلك في قوله ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3‏]‏ ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الذكر الخفي»، والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر، وتأول بعض العلماء «التضرع والخفية» في معنى السر جميعاً، فكأن التضرع فعل للقلب، ذكر هذا المعنى الحسن بن أبي الحسن، وقال‏:‏ لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، وإن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية‏}‏ وذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3‏]‏ وقال الزجاج ‏{‏ادعوا ربكم‏}‏ معناه اعبدوا ربكم ‏{‏تضرعاً وخفية‏}‏ أي باستكانة واعتقاد ذلك في القلوب، وقرأ جميع السبعة «وخُفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام و«خِفية» بكسرها وهما لغتان، وقد قيل إن «خِفية» بكسر الخاء بمعنى الخوف والرهبة، ويظهر ذلك من كلام أبي علي‏.‏

وقرأت فرقة «وخِيفة» من الخوف، أي ادعوه باستكانة وخوف ذكرها ابن سيده في المحكم ولم ينسبها، وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا، وقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المعتدين‏}‏ يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاماً، فإلى هذا هي الإشارة، والاعتداء في الدعاء على وجوه، منها الجهر الكثير والصياح كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم- وقد رعفوا أصواتهم بالتكبير-‏:‏ «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من التشطط، ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك، وفي هذه الأسئلة كفاية، وقرأ ابن أبي عبلة «إن الله لا يحب المعتدين»، والمعتدي هو مجاوز الحد ومرتكب الحظر، وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «سيكون أقوام يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول‏:‏ اللهم إني أسألك الجنة ما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض‏}‏ الآية، ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلَّ أو كثر بعد إصلاح، قل أو كثر، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال، قال الضحاك‏:‏ معناه لا تغوروا الماء المعين ولا تقطعوا الشجر المثمر ضراراً، وقد ورد قطع الدينار والدرهم من الفساد في الأرض، وقد قيل تجارة الحكام من الفساد في الأرض، وقال بعض الناس‏:‏ المراد ولا تشركوا في الأرض بعد أن أصلحها الله ببعثة الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوه خوفاً وطمعاً‏}‏ أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل الله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط ومنه تمني الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة، وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون، ثم أنس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن رحمت الله قريب من المحسنين‏}‏ فإنها آية وعد فيها تقييد بقوله ‏{‏من المحسنين‏}‏‏.‏

واختلف الناس في وجه حذف التاء من ‏{‏قريب‏}‏ في صفة الرحمة على أقوال، منها أنه على جهة النسب أي ذات قرب، ومنها أنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جرت مجرى كف خضيب ولحية دهين، ومنها أنها بمعنى مذكر فذكر الوصف لذلك‏.‏

واختلف أهل هذا القول في تقدير المذكر الذي هي بدل منه فقالت فرقة الغفران والعفو، وقالت فرقة المطر، وقيل غير ذلك، وقال الفراء‏:‏ لفظة القرب إذا استعملت في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد، وإذا استعملت في قرب المسافة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أو الزمن- فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء، وهذا منه، ومن هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

عشية لا عفراء منك قريبة *** فتدنو ولا عفراء منك بعيد

فجمع في هذا البيت بين الوجهين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا قول الفراء في كتابه، وقد مر في بعض كتب المفسرين مقيداً ورد الزجّاج على هذا القول، وقال أبو عبيدة ‏{‏قريب‏}‏ في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع، فيجيء، هكذا في المؤنث والاثنين والجميع وكذلك بعيد، فإذا جعلوها صفة بمعنى مقربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات‏.‏

وذكر الطبري أن قوله ‏{‏قريب‏}‏ إنما يراد به مقاربة الأرواح للأجساد أي عند ذلك تنالهم الرحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

هذه آية اعتبار واستدلال، وقرأ نافع وأبو عمرو «الرياح» بالجمع «نُشُراً» بضم النون والشين، قال أبو حاتم، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء، واختلف عنهم الأعرج، وأبي جعفر ونافع وأبي عمرو وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين، وقرأ ابن كثير «الريح» واحدة «نُشْراً» بضمها أيضاً، وقرأ ابن عامر «الرياح» جمعاً «نُشْراً» بضم النون وسكون الشين، قال أبو حاتم‏:‏ ورويت عن الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء وقتادة وأبي عمرو، وقرأ حمزة والكسائي، «الريح» واحدة، «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين، قال أبو حاتم وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش وابن وثاب وإبراهيم وطلحة والأعمش ومسروق بن الأجدع، وقرأ ابن جني قراءة مسروق «نَشَرا» بفتح النون والشين، وقرأ عاصم «الرياح» جماعة «بُشْراً» بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه «بُشُراً» بضم الباء والشين، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة، وقرأ محمد بن السميفع وأبو قطيب «بُشرى» على وزن فعل بضم الباء، ورويت عن أبي يحيى وأبي نوفل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «بَشْرا» بفتح الياء وسكون الشين، قال الزهراوي‏:‏ ورويت هذه عن عاصم‏.‏

ومن جمع الريح في هذه الآية فهو أسعد، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة كقوله ‏{‏ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 45‏]‏ وقوله ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 22‏]‏ وقوله ‏{‏الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ وأكثر ذكر الريح مفردة، إنما هو بقرينة عذاب، كقوله ‏{‏وفي عاد إذا أرسلنا عليهم الريح العقيم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ وقوله ‏{‏وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 6‏]‏ وقوله ‏{‏بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ نحا هذا المنحى يحيى بن يعمر وأبو عمرو بن العلاء وعاصم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح يقول «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمعنى في هذا كله بين، وذلك أن ريح السقيا والمطر أنها هي منتشرة لينة تجيء من هاهنا وتتفرق فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيراً أن يقال لها رياح، وتوصف بالكثرة ريح الصر والعذاب، عاصفة صرصر جسد واحد شديدة المر مهلكة بقوتها وبما تحمله أحياناً من الصر المحرق، فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى ريحاً مفردة، وكذلك أفردت الريح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجرين بهم بريح طيبة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ من حيث جري السفن إنما جرت بريح متصلة كأنها شيء واحد فأفردت لذلك ووصفت بالطيب إزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة، وكذلك ريح سليمان عليه السلام إنما كانت تجري بأمره أو تعصف في حقوله وهي متصلة، وبعد فمن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد فإنما يريد به اسم الجنس، وأيضاً فتقيدها ب «نشر» يزيل الاشتراك‏.‏

والإرسال في الريح هو بمعنى والإجراء والإطلاق والإسالة ومنه الحديث فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، والريح تجمع في القليل أرواح وفي الكثير رياح لأن العين من الريح واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها، وكذلك في الجمع الكثير، وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال، وأما «نُشُراً» بضم النون والشين فيحتمل أن يكون جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي أو نشور من الحياة، ويحتمل «نَشُراً» أن يكون جمع نشور بفتح النون وضم الشين كرسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر، ويحتمل «نشرا» أن يكون كالمفعول بمعنى منشور كركوب بمعنى مركوب، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل لأنها تنشر الحساب، وأما مثلا الأول في قولنا ناشر ونشر فشاهد وشهد ونازل ونزل، كما قال الشاعر‏:‏

أو تنزلون فإنّا معشر نزل *** وقاتل وقتل ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إنا لمثلكم يا قومنا قتل *** وأما من قرأ «نُشْراً» بضم النون وسكون الشين فإنما خفف الشين من قوله ‏{‏نشراً‏}‏ وأما من قرأ «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين فهو مصدر في موضع الحال من الريح، ويحتمل في المعنى أن يراد به من النشر الذي هو خلاف الطيّ كل بقاء الريح دون هبوب طيّ، ويحتمل أن يكون من أن النشر الذي هو الإحياء كما قال الأعشى‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

يا عجبا للميّت الناشر *** وأما من قرأ «نَشَراً» بفتح النون والشين وهي قراءة شاذة فهو اسم وهو على النسب، قال أبو الفتح أي ذوان نشر، والنَّشَر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى، فشبه السحاب، في انتشاره وعمومه بذلك، وأما «بُشُراً» بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذر، و«بشْراً» بسكون الشين مخفف منه و«بَشْراً» بفتح الباء وسكون الشين مصدر و«بشرى» مصدر أيضاً في موضع الحال‏.‏ و«الرحمة» في هذه الآية المطر، و‏{‏بين يدي‏}‏ أي أمام رحمته وقدامها وهي هنا استعارة وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام‏.‏

و ‏{‏أقلت‏}‏ معناه‏:‏ رفعت من الأرض واستقلت بها، ومنه القلة وكأن المقل يرد ما رفع قليلاً إذا قدر عليه، و‏{‏ثقالاً‏}‏ معناه من الماء، والعرب تصف السحاب بالثقل والدلح، ومنه قول قيس بن الخطيم‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

بأحسنَ منها ولا مزنة *** دلوح تكشف أدجانها

والريح تسوق السحاب من وارئها فهو سوق حقيقة، والضمير في ‏{‏سقناه‏}‏ عائد على السحاب، واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى من حيث هو إنعام، وصفه البلد بالموت، استعارة بسبب سعته وجدوبته وتصويح نباته، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش‏:‏ «لبلد ميْت» بسكون الياء وشدها الباقون والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فأنزلنا به‏}‏ يحتمل أن يعود على السحاب أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الماء وهو أظهرها، وقال السدي في تفسير هذه الآية‏:‏ إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرق السماء والأرض حيث يلتقيان فتخره من ثم ثم تنشره فتبسطه في السماء ثم تفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا التفصيل لم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى ‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ يحتمل مقصدين أحدهما أن يراد كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء وإخراج الثمرات به من الأرض المحدبة هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث وهذه مثال لها، ويحتمل أن يراد أن هكذا يصنع بالأموات من نزول المطر عليهم حتى يحيوا به فيكون الكلام خبراً لا مثلاً، وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره الطبري عن أبي هريرة أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع، فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح، ثم تلقى عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم، فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب يخرج نباته‏}‏ آية متممة للمعنى الأول في الآية قبلها معرفة بعادة الله تعالى في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مثالاً لقلب المؤمن وقلب الكافر فذلك كله مرتب، لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثال قصد بذلك والتمثيل بذلك حكاه الطبري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وقال النحاس‏:‏ هو مثال للفهيم وللبليد، و‏{‏الطيب‏}‏‏:‏ هو الجيد التراب الكريم الأرض، وخص بإذن ربه مدحاً وتشريفاً، وهذا كما تقول لمن تغض منه، أنت كما شاء الله فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح أو ذم ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فله ما سلف وأمره إلى الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ على بعض التأويلات، والخبيث هو السباخ ونحوهما من رديء الأرض، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر «يُخْرِج نباتَه» بضم الياء وكسر الراء ونصب التاء، و«النكد» العسير القليل، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن *** أعطيت أعطيت تافهاً نكدا

ونكد الرجل إذا سأل إلحافاً وأخجل ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

وأعط ما أعطيته طيباً *** لا خير في المنكود والناكد

وقرأ جمهور الناس وجميع السبعة «نَكِداً» بفتح النون وكسر الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف «نَكْداً» بتخفيف الكاف وفتح النون، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «نَكَداً» بفتح النون والكاف، وقال الزجّاج‏:‏ وهي قراءة أهل المدينة ‏{‏كذلك نصرف الآيات‏}‏ أي هكذا نبين الأمور، و‏{‏يشكرون‏}‏ معناه يؤمنون ويثنون بآلاء الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

اللام لام القسم، قال الطبري أقسم الله تعالى أنه أرسل نوحاً، وقالت فرقة من المفسرين‏:‏ سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، قال سيبويه‏:‏ نوح ولوط وهود أسماء أعجمية إلا أنها حقيقة فلذلك صرفت، وهذه نذارة من نوح لقومه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة وداً وسواعاً ويغوث ويعوق وغيرها مما لم يشتهر، وقرأ الكسائي وحده «غيرِه» بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي «هل من خالق غير الله» خفضاً، وقرأ الباقون‏:‏ «غيرُ الله» رفعاً والرفع في قراءة الجماعة هنا على البدل من قوله ‏{‏من إله‏}‏ لأن موضع قوله ‏{‏من إله‏}‏ رفع، وهو الذي رجح الفارسي، ويجوز أن يكون نعتاً على الموضع لأن التقرير ما لكم إله غيره، أو يقدر «غير» ب «إلا» فيعرب بإعراب ما يقع بعد «إلا»، وقرأ عيسى بن عمر «غيرَه» بنصب الراء على الاستثناء، قال أبو حاتم‏:‏ وذلك ضعيف من أجل النفي المتقدم، وقوله ‏{‏عذاب‏}‏ يحتمل أن يريد عذاب الدنيا ويحتمل أن يريد به عذاب الآخرة‏.‏

و ‏{‏الملأ‏}‏ الجماعة الشريفة، قال الطبري‏:‏ لا امرأة فيهم، وحكاه النقاش عن ثعلب في الملأ والرهط والنفر والقوم، وقيل هم مأخوذون من أنهم يملؤون النفس والعين، ويحتمل أن يكون من أنهم إذا تمالؤوا على أمر تم، وقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري عند قفول رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر إنما قتلنا عجائز صلعاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أولئك الملأ من قريش لو حضرت أفعالهم لاحتقرت فعلك» والملأ صفة غالبة وجمعه أملاء وليس من باب رهط وإن كانا اسمين للجمع لأن رهط لا واحد له من لفظه، و«ملأ» يوجد من لفظه مالئ قال أحمد بن يحيى‏:‏ المالئ الرجل الجليل الذي يملأ العين بجهرته فيجيء كعازب وخادم ورائح فإن أسماء جموعها عرب وخدم وروح، وإن كان اللفظة من تمالأ القوم على كذا فهي مفارقة باب رهط ومنه قول علي رضي الله عنه‏:‏ ما قتلت عثمان ولا مالأت في دمه، وقال ابن عباس «الملؤ» بواو وكذلك هي في مصاحف الشام، وقولهم لنراك يحتمل أن يجعل من رؤية البصر، ويحتمل من رؤية القلب وهو الأظهر و‏{‏في ضلال‏}‏ أي في إتلاف وجهالة بما نسلك‏.‏

وقوله لهم جواباً عن هذا ‏{‏ليس بي ضلالة‏}‏ مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم وتناول رفيق وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة، وقوله‏:‏ ‏{‏ولكني رسول‏}‏ تعرض لمن يريد النظر والبحث والتأمل في المعجزة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونقدر ولا بد أن نوحاً عليه السلام وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة تخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف‏.‏

وقرأ السبعة سوى ابي عمرو «أبَلّغكم» بشد اللام وفتح الباء، بسكون الباء وتخفيف اللام، وقوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ وإن كان لفظاً عاماً في كل ما علمه فالمقصود منه هنا المعلومات المخوفات عليهم لا سيما وهم لم يسمعوا قط بأمة عذبت فاللفظ مضمن الوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

هذه ألف استفهام دخلت على الواو العاطفة، والاستفهام هنا بمعنى التقرير والتوبيخ، وعجبهم الذي وقع إنما كان على جهة الاستبعاد والاستمحال، هذا هو الظاهر من قصتهم، وقوله‏:‏ ‏{‏على‏}‏ قيل هي بمعنى مع، وقيل على حذف مضاف تقدره على لسان رجل منكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون المجيء بنفسه في هذا الموضع يصل ب ‏{‏على‏}‏ إذ كل ما يأتي من الله تعالى فله حكم النزول فكأنه ‏{‏جاءكم‏}‏ معناه نزل فحسن معه أن يقال ‏{‏على رجل‏}‏ واللام في ‏{‏لينذركم‏}‏ لام كي‏.‏ وقوله ‏{‏ولعلكم‏}‏ ترجّ بحسب حال نوح ومعتقده لأن هذا الخبر إنما هو من تلقاء نوح عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏ الآية، أخبر الله عنهم أنهم بعد تلطفه بهم كذبوه فأنجاه الله والمؤمنين به في السفينة وهي الفلك، و‏{‏الفلك‏}‏ لفظ واحد للجمع والمفرد، وليس على حد جنب ونحونه، لكن فلك للواحد كسر على فُلك للجميع فضمة الفاء في الواحد ليست هي في الجمع وفعل بناء تكسير مثل أسد وأسد، ويدل على ذلك قولهم في التثنية فلكان، وفي التفسير‏:‏ أن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلاً، وقيل ثمانون، وقيل عشرة، فهم أولاده يافث وسام وحام، وفي كثر من كتب الحديث للترمذي وغيره‏:‏ أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام، وقال الزهري في كتاب النقاش‏:‏ وفي القرآن ‏{‏ذرية من حملنا مع نوح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيحتمل أن يكون سائر العشرة أو الأربعين حسب الخلاف حفدة لنوح ومن ذريته فتجتمع الآية والحديث، ويحتمل أن من كان في السفينة غير بنيه لم ينسل، وقد روي ذلك، وإلا لكان بين الحديث والآية تعارض، وقوله‏:‏ ‏{‏كذبوا بآياتنا‏}‏ يقتضي أن نوحاً عليه السلام كانت له آيات ومعجزات، وقوله‏:‏ ‏{‏عمين‏}‏ وزنه فعلين وهو جمع عم وزنه فعل، ويريد عمى البصائر، وروي عن ابن عباس أن نوحاً بعث ابن أربعين سنة، قال ابن الكلبي‏:‏ بعد آدم بثمانمائة سنة، وجاء بتحريم البنات والأخوات والأمهات والخالات والعمات، وقال وهب بن منبه بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة، وقيل بعث ابن ثلاثمائة سنة، وقيل ابن خمسين سنة، وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره صلى الله عليه وسلم، وأتى في حديث الشفاعة وغيره‏:‏ أن نوحاً أول نبي بعث إلى الناس، وأتى أيضاً أن إدريس قبل نوح ومن آبائه وذلك يجتمع بأن تكون بعثة نوح مشتهرة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان، فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏عاد‏}‏ اسم الحي، و‏{‏أخاهم‏}‏ نصب ب ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ فهو معطوف على نوح، وهذه أيضاً نذارة من هود عليه السلام لقومه، وتقدم الخلاف في قراءة ‏{‏غيره‏}‏ وقوله ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ استعطاف إلى التقى والإيمان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ‏}‏ الآية، تقدم القول في مثل هذه المقالة آنفاً، و«السفاهة» مصدر عبر به عن الحال المهلهلة الرقيقة التي لا ثبات لها ولا جودة، والسفه، في الثوب خفة نسجه، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏ ‏[‏ذي الرمة‏]‏

مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مرُّ الرياح النواسم

وقولهم‏:‏ ‏{‏لنظنك‏}‏ هو ظن على بابه لأنهم لم يكن عندهم إلا ظنون وتخرص‏.‏

وتقدم الخلاف في قراءة ‏{‏أبلغكم‏}‏ وقوله ‏{‏آمين‏}‏ يحتمل أن يريد‏:‏ على الوحي والذكر النازل من قيل الله عز وجل، ويحتمل أن يريد‏:‏ أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم، والعرب تقول‏:‏ فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب، ويحتمل أن يريد به أمين من الأمن أي جهتي ذات أمن من الكذب والغش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قد تقدم القول في مثل ‏{‏أو عجبتم‏}‏ و«الذكر» لفظ عام للمواعظ والأوامر والنواهي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكروا‏}‏ الآية، تعديد للنعم عليهم، و‏{‏خلفاء‏}‏ جمع خليف كظريف وظرفاء، وخليفة جمع خلائف، والعرب تقول خليفة وخليف، وأنشد أبو علي‏:‏

فإن يزل زائل يوجد خليفته *** وما خليف أبي وهب بموجود

قال السدي وابن إسحاق‏:‏ والمعنى جعلكم سكان الأرض بعد قوم نوح، وقوله‏:‏ ‏{‏وزادكم في الخلق بصطة‏}‏ أي في الخلقة، والبصطة الكمال في الطول والعرض، وقيل زادكم على أهل عصركم، قال الطبري‏:‏ المعنى زادكم على قوم نوح وقاله قتادة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واللفظ يقتضي أن الزيادة هي على جميع العالم، وهو الذي يقتضي ما يذكر عنهم، وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع وطول أقصرهم ستون ونحو هذا‏.‏ و«الآلاء»‏:‏ جمع «إلا» على مثال معي، وأنشد الزجّاج‏:‏ ‏[‏للأعشى‏]‏

أبيض لا يرهب الهزال ولا *** يقطع رحماً ولا يخون إلا

وقيل واحد الآلاء «ألا» على مثال قفى وقيل واحدها «إلى» على مثال حسى وهي النعمة والمنة، و‏{‏تفلحون‏}‏‏:‏ معناه تدركون البغية والآمال، قاله الطبري وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم ابن عوص بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم الشحر من أرض اليمن وما والى حضرموت إلى عمان، وقال السدي وكانوا بالأحقاف وهي الرمال، وكانت بلادهم أخصب بلاد فردها الله صحارى، وقال علي بن أبي طالب‏:‏ إن قبر هود عليه السلام هنالك في كثيب أحمر يخالطه مدرة ذات أراك وسدر، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض وملكوا كثيراً بقوتهم وعددهم وظلموا الناس، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة، وكانوا أصحاب أوثان منها ما يسمى صداء ومنها صمودا ومنها الهنا فبعث الله إليهم هوداً من أفضلهم وأوسطهم نسباً فدعاهم إلى توحيد الله وإلى ترك الظلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك فكذبوه وعتوا واستمر ذلك منهم إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين، فشقوا بذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا أهمهم أمر فزعوا إلى المسجد الحرام بمكة فدعوا الله فيه تعظيماً له مؤمنهم وكافرهم، وأهل مكة يومئذ العماليق وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفداً إلى مكة يستسقون الله لهم، فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعثيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه وجلهمة بن الخبيري في سبعين رجلاً من قومهم، فلما قدموا مكة نزلواعلى معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم فأنزلهم وأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم وقد بعثهم عاد للغوث أشفق على عاد وكان ابن أختهم كلهدة بن الخبير أخت جلهمة، وقال هلك أخوالي وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عند فشكا ذلك إلى قينة فقالت له اصنع شعراً نغني به عسى أن ننبههم فقال‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألا يا قيل ويحك قم فهينمْ *** لعل الله يصحبنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداً *** قد امسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير *** فقد أمست نساؤهم عياما

وإن الوحش تأتيهم جهاراً *** ولا تخشى لعاديَّ سهاما

وأنتمْ ها هنا فيما اشتهيتم *** نهارَكمُ وليلكمُ التماما

فَقُبِّحَ وفدُكمْ من وفدِ قَوْمٍ *** ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما

فغنت به الجرادتان فلما سمعه القوم قال بعضهم يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل بهم فادخلوا هذا الحرم وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك فقال لهم مرثد بن سعد إنكم والله ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم به سقيتم، وأظهر إيمانه يؤمئذ فخالفه الوفد، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثداً ولا يدخل معنا الحرم، فإنه قد اتبع هوداً ومضوا إلى مكة فاستسقى قيل بن عنز، وقال يا إلهنا إن كان هود صالحاً فاسقنا فإنّا قد هلكنا، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب يا رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، لا والداً ولا ولداً، إلا جعلتهم همداً، وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث، فلما رأوها قالوا هذا عارض ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة من عاد يقال لها مهد، فصاحت وصعقت فلما أفاقت قيل لها ما رأيت‏؟‏ قالت رأيت ريحاً كشهب النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم ثمانية أيام حسوماً وسبع ليال، والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك، فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه من الريح إلا ما يلتذ به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قصص وقع في تفسير مطولاً، وفيه اختلاف فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز وفي خبرهم أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة وترفع الظعينة عليها المرأة، حتى تلقيها في البحر، وفي خبرهم أن اقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في البحر، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع، وقال زيد بن أسلم‏:‏ بلغني أن ضبعاً ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم وفي خبرهم، أن الله بعث لما هلكت عاد طيراً وقيل أسداً فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر، فذلك قوله

‏{‏فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ في بعض ما روي من شأنهم‏:‏ أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أهلكوا بريح صرصر عاتية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 6‏]‏ وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى مكة فكانوا بها حتى ماتوا، فالله علم أي ذلك كان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏ الآية، ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود، وقوله‏:‏ ‏{‏فاتنا‏}‏ تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة، وتمكن قولهم‏:‏ ‏{‏تعدنا‏}‏ لما كان هذا الوعد مصرحاً به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقاً لم يجئ إلا في خبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال «رجس ورجز» بمعنى واحد، قاله أبو عمرو بن العلاء، وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذا سنة كانت بنجد محيطة *** فكان عليهم رجسها وعذابها

وقد يأتي الرجس أيضاً بمعنى النتن والقذر، ويقال في الرجيع رجس وركس، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن، ونحوه في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية‏:‏ «دعوها فإنها منتنة» وقوله‏:‏ ‏{‏أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ إنما يريد أنهم ثخاصمونه في أن تسمى آلهة، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات، لكنه ورد في القرآن ‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 40‏]‏ فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ وقوله ‏{‏تبارك اسم ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 78‏]‏ على أن هذا يتأول، ومنه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إلى الحوِل ثمَّ اسمُ السلام عليكما *** على تأويلات في البيت، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان‏:‏ البرهان وقوله ‏{‏فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏ الآية وعيد وتهديد‏.‏

والضمير في قوله «أنجيناه» عائد على «هود» أي أخرجه الله سالماً ناجياً مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا ‏{‏وقطعنا دابر‏}‏ استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، و«الدابر» الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم‏:‏ فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله ‏{‏كذبوا بآياتنا‏}‏ دال على المعجزة وإن لم تتعين لها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود‏}‏ الآية، هو «ثمود» بن غاثن بن أرم بن سام بن نوح أخو جديس بن غاثن، وقرأ يحيى بن وثاب «وإلى ثمودٍ» بكسر الدال وتنوينه في جميع القرآن، وصرفه على اسم الحي وترك صرفه على اسم القبيلة، قاله الزجاج، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن ثموداً كفروا ربهم‏}‏ فالمعنى‏:‏ وأرسلنا «إلى ثمود أخاهم» فهو عطف على نوح والأخوة هنا أخوة القرابة، وقال الزجاج يحتمل أن تكون أخوة الآدمية، وسمى ‏{‏أخاهم‏}‏ لما بعث إليهم وهم قوم عرب و«هود وصالح» عربيان، وكذلك إسماعيل وشعيب، كذا قال النقاش، وفي أمر إسماعيل عليه السلام نظر، وصالح عليه السلام هو صالح بن عبيد بن عارم بن أرم بن سام بن وح كذا ذكر مكي، وقال وهب بعثه الله حين راهق الحلم، ولما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة، فأقاموا بها، حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر، وقوله ‏{‏بينة‏}‏ صفة حذف الموصوف وأقيمت مقامه، قال سيبويه وذلك قبيح في النكرة أن تحذف وتقام صفتها مقامها، لكن إذا كانت الصفة كثيرة الاستعمال مشتهرة وهي المقصود في الأخبار والأمم زال القبح، كما تقول جاءني عبد لبني فلان وأنت تريد جاءني رجل عبد لأن عبداً صفة فكذلك قوله هنا ‏{‏بينة‏}‏، المعنى آية أو حجة أو موعظة «بينة»، وقال بعض الناس إن «صالحاً» جاء بالناقة من تلقاء نفسه، وقالت فرقة وهي الجمهور‏:‏ بل كانت مقترحة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم، وروي أن بعضهم قال «يا صالح» إن كنت صادقاً فادع ربك يخرج لنا من هذه الهضبة وفي بعض الروايات من هذه الصخرة لصخرة بالحجر يقال لها الكاثبة ناقة عشراء قال فدعا الله فتمخضت تلك الهضبة وتنفضت وانشقت عن ناقة عظيمة، وروي‏:‏ أنها كانت حاملاً فولدت سقبها المشهور، وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة، وروي‏:‏ أن جملاً من جمال ‏{‏ثمود‏}‏ ضربها فولدت فصيلها المشهور، وقيل ‏{‏ناقة الله‏}‏ تشريفاً لها وتخصيصاً، وهي إضافة خلق إلى خالق، وقال الزجاج‏:‏ وقيل إنها ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شرباً يوماً ولهم شرب يوم، وكانت الآية في شربها وحلبها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحكى النقاش عن الحسن أنه قال‏:‏ هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب والذي عليه الناس أقوى وأصح من هذا، قال المفسرون‏:‏ وكانت حلفاً عظيماً تأتي إلى الماء بين جبلين فيزحمانها من العظم وقاسمت ‏{‏ثمود‏}‏ في الماء يوماً بيوم فكانت ترد يومها فتستوفي ماء بئر همشريا ويحلبونها وما شاؤوا من لبن ثم تمكث يوماً وترد بعد ذلك غياً، فاستمر ذلك ما شاء الله حتى أماتها ‏{‏ثمود‏}‏ وقالوا ما نصنع باللبن، الماء أحب إلينا منه، وكان سبب الملل فيما روي أنها كانت تصيف في بطن الوادي وادي الحجر وتستوفي ظاهره فكانت مواشيهم تفر منها فتصيف في ظهر الوادي للقيظ، وتستوفي باطنه للزمهرير وفسدت لذلك، فتمالؤوا على قتل الناقة فقال لهم «صالح» مرة إن هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه، فولد لعشرة نفر أولاد فذبح التسعة أولادهم، وبقي العاشر وهو سالف أبو قدار، فنشأ قدار أحمر أزرق فكان التسعة إذا رأوه قالوا لو عاش بنونا كانوا مثل هذا، فاحفظهم إن قتلوا أولادهم بكلام صالح‏.‏

فأجمعوا على قتله، فخرجوا وكمنوا في غار ليبيتوه منه وتقاسموا لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله، فسقط الغار عليهم فماتوا فهم الرهط التسعة الذين ذكر الله تعالى في كتابه هم قدار بن سالف، ومصرع بن مهرج ضما إلى أنفسهما سبعة نفر وعزموا على عقر الناقة، وروي أن السبب في ذلك أن امرأتين من ‏{‏ثمود‏}‏ من أعداء «صالح» جعلتا لقدار ومصرع أنفسهما وأموالهما على أن يعقرا الناقة وكانتا من أهل الجمال، وقيل إن قداراً شرب الخمر مع قوم فطلبوا ماء يمزجون به الخمر فلم يجدوه لشرب الناقة، فعزموا على عقرها حينئذ فخرجوا وجلسوا على طريقها وكمن لها قدار خلف صخرة، فلما دنت منه رماها بالحربة ثم سقطت فنحرها، ثم اتبعوا الفصيل فهرب منهم حتى علا ربوة ورغا ثلاث مرات واستغاث فلحقوه وعقروه، وفي بعض الروايات أنهم وجدوا الفصيل على رابية من الأرض فأرادوه فارتفعت به حتى لحقت به في السماء فلم يقدروا عليه فرغا الفصيل مستغيثاً بالله تعالى فأوحى الله إلى «صالح» أن مرهم فليتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، وحكى النقاش عن الحسن أنه قال إن الله تعالى أنطق الفصيل فنادى أين أمي‏؟‏ فقال لهم «صالح» إن العذاب واقع بكم في الرابع من عقر الناقة، وروي‏:‏ أنه عقرت يوم الأربعاء وقال لهم «صالح» تحمر وجوهم غداً وتصفر في الثاني وتسود في الثالث وينزل العذاب في الرابع يوم الأحد، فلما ظهرت العلامة التي قال لهم أيقنوا واستعدوا ولطخوا أبدانهم بالمن، وحفروا القبور وتحنطوا فأخذتهم الصيحة وخرج صالح ومن معه حتى نزل رملة فلسطين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القصص اقتضبته من كثير أورده الطبري رحمه الله رغبة الإيجاز، وقال أبو موسى الأشعري‏:‏ أتيت بلاد ‏{‏ثمود‏}‏ فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبلاد ‏{‏ثمود‏}‏ هي بين الشام والمدينة، وهي التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في غزوة تبوك فقال لا تدخلوا مساكين الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثم اعتجر بعمامته وأسرع السير صلى الله عليه وسلم وروي أن المسافة التي أهلكت الصيحة أهلها هي ثمانية عشر ميلاً، وهي بلاد الحجر ومراتعها الجناب وحسمي إلى وادي القرى وما حوله، وقيل في قدار إنه ولد زنا من رجل يقال له ظيبان وولد على فراش سالف فنسب إليه ذكره قتادة وغيره، وذكر الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال أتعرفون ما هذا قالوا‏:‏ لا، قال هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ‏{‏ثمود‏}‏ فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلم فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الخبر يريد ما في السير من أن أبا رغال هو دليل الفيل وحبيسه إلى مكة والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏بوأكم‏}‏ معناه مكنكم، وهي مستعملة في المكان وظروفه، تقول تبوأ فلان منزلاً حسناً، ومنه قوله تعالى ‏{‏تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فما بَّوأ الرحمان بيتك منزلاً *** بشرقيّ أجيادِ الصَّفا والمحرمِ

و «القصور»‏:‏ جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود وقصرت عن الناس قصراً تاماً، و«النحت» النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تنحَتون» بفتح الحاء، وقرأ جمهور الناس‏:‏ بكسرها وبالتاء من فوق، وقرأ ابن مصرف‏:‏ بالياء من أسفل وكسر الحاء، وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء، وكانوا «ينحِتون» الجبال لطول أعمارهم، و‏{‏تعثوا‏}‏ معناه تفسدوا يقال‏:‏ عثا يعثي وعثا يعثو وعثى يعثى كنسى ينسى وعليها لفظ الآية، وقرأ الأعمش «تِعثوا» بكسر التاء و‏{‏مفسدين‏}‏‏:‏ حال‏.‏

وتقدم القول في ‏{‏الملأ‏}‏، وقرأ ابن عامر وحده في هذا الموضع «وقال الملأ» بواو عطف وهي محذوفة عند الجميع، و‏{‏الذين استكبروا‏}‏ هم الأشراف والعظماء الكفرة، و‏{‏استكبروا‏}‏ يحتمل أن يكون معناه طلبوا هيئة لنفوسهم من الكبر، أو يكون بمعنى كبروا كبرهم المال والجاه وأعظمهم فيكون على هذا كبر و«استكبر» بمعنى كعجب واستعجب، والأول هو باب استفعل كاستوقد واسترفد، والذين استضعفوا هم العامة والأغفال في الدنيا وهم أتباع الرسل، وقولهم ‏{‏أتعلمون‏}‏ استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله فحملت الأنفة الإشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم واستمروا على كفرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعقروا‏}‏ يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم وإصفاق وكذلك‏:‏ روي أن قداراً لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال والنساء والصبيان، فلما أجمعوا تعاطى فعقر، ‏{‏وعتوا‏}‏ معناه خشوا وصلبوا ولم يذعنوا للأمر والشرع وصمموا على تكذيبه واستعجلوا النقمة بقولهم ‏{‏ائتنا بما تعدنا‏}‏ وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب، قال أبو حاتم قرأ عيسى وعاصم أُيتنا بهمز وإشباع ضم، وقرأ تخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمر والأعمش‏.‏

و ‏{‏الرجفة‏}‏ ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان وهو أن يتزعزع ويتحرك ويضطرب ويرتعد‏.‏ ومنه قول خديجة فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، ومنه قول الأخطل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏‏:‏

أما تريني حناني الشيب من كبر *** كالنسر أرجف والإنسان ممدود

ومنه «إرجاف» النفوس لكريه الأخبار أي تحريكها، وروي أن صيحة ثمود كان فيها من صوت كل شيء هائل الصوت، وكانت مفرطة شقت قلوبهم فجثوا على صدورهم والجاثم اللاطئ بالأرض على صدره مع قبض ساقيه كما يرقد الأرنب والطير، فإن جثومها على وجهها، ومنه قول جرير‏:‏ ‏[‏الوافرُ‏]‏‏.‏

عرفت المنتأى وعرفت منها *** مطايا القدر كالحدأ الجثوم

وقال بعض المفسرين معناه حمماً محترقين كالرماد الجاثم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحيث وجد الرماد الجاثم في شعر فإنما هو مستعار لهيئة الرماد قبل هموده وتفرقه، وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة‏.‏

وأخبر الله عز وجل بفعل «صالح» في توليه عنهم وقت «عقرهم» الناقة وقولهم ‏{‏ائتنا بما تعدنا‏}‏ وذلك قبل نزول العذاب وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم، وأما لفظ الآية فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى على جهة التفجع عليهم وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، قال الطبري‏:‏ وقيل لم تهلك أمة ونبيها معها، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات، ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تحبون الناصحين‏}‏ عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح، ولذلك تقول العرب أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

«لوط» عليه السلام بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم وروي أنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، ونصبه إما ‏{‏أرسلنا‏}‏ المتقدم في الأنبياء وإما بفعل مضمر تقديره واذكر ‏{‏لوطَا‏}‏ واستفهامه لهم هو على جهة التوقيف والتوبيخ والتشنيع، و‏{‏الفاحشة‏}‏ هنا إتيان الرجال في الأدبار، وروي أنه لم تكن هذه المعصية في أمم قبلهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإن كان لفظ الآية يقتضي هذا فقد كانت الآية تحتمل أن يراد بها ما سبقكم أحد إلى لزومها وتشهيرها وروي أنهم إن كانوا يأتي بعضهم بعضاً، وروي أنهم إنما كانوا «يأتون» الغرباء قاله الحسن البصري، قال عمرو بن دينار ما زنا ذكر على ذكر قبل قوم «لوط»، وحكى النقاش‏:‏ أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه، وقال بعض العلماء عامل اللواط كالزاني، وقال مالك رحمه الله وغيره‏:‏ يرجم أحصن أو لم يحصن، وحرق أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلاً يسمى الفجأة حين عمل عمل قوم «لوط»‏.‏

وقرأ نافع والكسائي وحفص عن عاصم «أنكم» على الخبر كأنه فسر ‏{‏الفاحشة‏}‏ وقرأ ابن كثير أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة‏:‏ «أإنكم» باستفهام آخر، وهذا لأن الأول استفهام عن أمر مجمل والثاني عن مفسر، إلا أن حمزة وعاصماً قرءا بهمزتين، ولم يهمز أبو عمر وابن كثير إلا واحدة و‏{‏شهوة‏}‏‏:‏ نصب على المصدر من قولك شهيت الشيء شهاه، والمعنى تدعون الغرض المقصود بالوطء وهو ابتغاء ما كتب الله من الوالد وتنفردون بالشهوة فقط، وقوله‏:‏ ‏{‏بل أنتم‏}‏ إضراب عن الإخبار عنهم أو تقريرهم على المعصية وترك لذلك إلى الحكم عليهم بأنهم قوم قد تجاوزوا الحد وارتكبوا الحظر، والإسراف الزيادة المفسدة‏.‏

وقرأ الجمهور «جوابَ» بالنصب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «جوابُ» بالرفع، ولم تكن مراجعة قومه باحتجاج منهم ولا بمدافعة عقلية وإنما كانت بكفر وصرامة وخذلان بحت في قولهم ‏{‏أخرجوهم‏}‏ وتعليلهم الإخراج بتطهير المخرجين، والضمير عائد على «لوط» وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم، وروي أنه لم يكن معه غير ابنتيه وعلى هذا عني في الضمير هو وابنتاه، و‏{‏يتطهرون‏}‏ معناه يتنزهون عن حالنا وعادتنا، قال مجاهد معناه ‏{‏يتطهرون‏}‏ عن أدبار الرجال والنساء، قال قتادة‏:‏ عابوهم بغير عيب وذموهم بغير ذم، والخلاف في أهله حسبما تقدم‏.‏

واستثنى الله امرأة «لوط» عليه السلام من الناجين وأخبر أنها هلكت، والغابر الباقي هذا المشهور في اللغة، ومنه غير الحيض كما قال أبو كبير الهذلي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ومبرأ من كل غبر حيضة *** وفساد من ضعة وداء مغيل

وغبر اللبن في الضرع بقيته، فقال بعض المفسرين‏:‏ ‏{‏كانت من الغابرين‏}‏ في العذاب والعقاب أي مع الباقين ممن لم ينج، وقال أبو عبيدة معمر‏:‏ ذكرها الله بأنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة إلى أن هلكت مع قومها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأن قوله‏:‏ ‏{‏إلا امرأته‏}‏ اكتفى به في أنها لم تنج ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة، والأول أظهر، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي، وكذلك حكى أهل اللغة غبر بمعنى بقي وبمعنى مضى، وأما قوله الأعشى‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

عض بما أبقى المواسي له *** من أمه في الزمن الغابر

فالظاهر أنه أراد الماضي وذلك بالنسبة إلأى وقت الهجاء، ويحتمل أن يريد في الزمن الباقي وذلك بالنسبة إلى الحين هو غابر بعد الإبقاء، ويحتمل أن يعلق في الزمن بعض فيكون الباقي على الإطلاق والأول أظهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم‏}‏ الآية، نص على إمطار وتظاهرت الآيات في غير هذه السورة أنه بحجارة، وروي أن الله عز وجل بعث جبريل فاقتلعها بجناحة وهي ست مدن، وقيل خمس، وقيل أربع، فرفعها حتى سمع أهل السماء نهاق الحمير وصراخ الديكة ثم عكسها ورد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض‏.‏ وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجاً عن البقع المرفوعة، وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجة‏:‏ واقوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قيل في ‏{‏مدين‏}‏ إنه اسم بلد وقطر، وقيل اسم قبيلة، وقيل هم من ولد «مدين» بن إبراهيم الخليل، وروي أن لوط عليه السلام هو جد شعيب لأمه، وقال مكي كان زوج بنت لوط، ومن رأى ‏{‏مدين‏}‏ اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي، ومن رآه اسماً للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف، وقوله‏:‏ ‏{‏أخاهم‏}‏ منصوب بقوله ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ في أول القصص، وهذا يؤيد أن ‏{‏لوطاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80‏]‏ به انتصب، وأن اللفظ مستمر، وهذه الأخوة في القرابة، وقد تقدم القول في ‏{‏غيره‏}‏ وغيره، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها، وقرأ الحسن بن أبي الحسن‏:‏ «قد جاءتكم آية من ربكم» مكان ‏{‏بينة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأوفوا الكيل‏}‏ أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه و‏{‏تبخسوا‏}‏ معناه تظلموا‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة، و‏{‏أشياءهم‏}‏ يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا‏}‏ لفظ عام دقيق الفساد وجليله، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك خير لكم‏}‏ أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقعدوا بكل صراط‏}‏ الآية، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، والصراط‏:‏ الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل‏:‏ خسهم ونقصهم الكيل والوزن، وقال أبو هريرة رضي الله عنه، وهو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد هذين القولين ويشبههما، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضاً، قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقعدوا‏}‏ نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتصدون عن سبيل الله من آمن‏}‏ الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى و‏{‏سبيل الله‏}‏ المفضية إلى رحمته، والضمير في ‏{‏به‏}‏ يحتمل أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل» وتقدم القول في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وتبغونها عوجاً‏}‏ في صدر السورة، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد، وقيل‏:‏ أغناهم بعد فقر، فالمعنى على هذا‏:‏ إذ كنتم قليلاً قدركم، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم عليَّ وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فاصبروا‏}‏ قوة التهديد والوعيد، هذا ظاهر الكلام وأن المخاطبة بجميع الآية للكفار، وحكى منذر بن سعيد عن ابن عباس أن الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏فاصبروا‏}‏ للمؤمنين على معنى الوعد لهم، وقاله مقاتل بن حيان، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان المعنى «فاصبروا» يا معشر الكفار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول الجماعة‏.‏

وتقدم القول في معنى ‏{‏الملأ‏}‏ ومعنى الاستكبار، وقولهم‏:‏ ‏{‏لنخرجنك يا شعيب‏}‏ تهديد بالنفي، والقرية المدينة الجامعة للناس لأنها تقرت أي اجتمعت، وقولهم أو ‏{‏لتعودون في ملتنا‏}‏ معناه أو لتصيرن، وعاد‏:‏ تجيء في كلام العرب على وجهين‏.‏ أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

إن عادت العقرب عدنا لها *** وكانت النعل لها حاضرة

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألا ليت أيام الشباب جديدُ *** وعصراً تولّى يا بثين يعودُ

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فإن تكن الأيام أحسن مرة *** إليّ فقد عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ

والوجه الثاني أن تكون بمعنى صار وعاملة عملها ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة‏.‏ ومن هذه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

تلك المكارم لاقعبان من لبن *** شيباً بماء فعادوا بعد أبوالا

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

وعاد رأسي كالثغامة *** ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى عاد كالعرجون القديم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 39‏]‏ على أن هذه محتملة، فقوله في الآية أو ‏{‏لتعودن‏}‏ و‏{‏شعيب‏}‏ عليه السلام لم يكن قط كافراً يقتضي أنها بمعنى صار، وأما في جهة المؤمنين بعد كفرهم فيترتب المعنى الآخر ويخرج عنه «شعيب» إلا أن يريدوا عودته إلى حال سكوته قبل أن يبعث، وقوله ‏{‏أو لو كنا كارهين‏}‏ توقيف منه لهم على شنعة المعصية وطلب أن يقروا بألسنتهم بإكراه المؤمنين بالله على الإخراج ظلماً وغشماً‏.‏

والظاهر في قوله‏:‏ ‏{‏قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم‏}‏ أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيماً ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء، مثل قول الشاعر‏:‏ بقيت وفري‏.‏

وكما تقول «افتريت على الله» إن كلمت فلاناً، و‏{‏افترينا‏}‏ معناه شققنا بالقول واختلفنا‏.‏ ومنه قول عائشة‏:‏ من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى به فقد أعظم على الله الفرية، ونجاة «شعيب» من ملتهم كانت منذ أول أمره، ونجاه من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة، وهذا أظهر ما يحتمل القول، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات، فلما قال لهم‏:‏ إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعاضر ملحد بذلك ويقول‏:‏ هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول‏:‏ لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا بمشيئة من الله تعالى فلا يترتب هذا التأويل إلا عندهم، وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه، وقيل‏:‏ إن هذا الاستثناء إنما هو تستر وتأدُّب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاسثناء ولو كان في الكلام إن شاء الله قوى هذا التأويل، وقوله‏:‏ ‏{‏وسع ربنا كل شيء علماً‏}‏ معناه‏:‏ وسع علم ربنا كل شيء كما تقول‏:‏ تصبب زيد عرقاً أي تصبب عرق زيد، و‏{‏وسع‏}‏ بمعنى أحاط، وقوله ‏{‏افتح‏}‏ معناه أحكم والفاتح الفتاح القاضي بلغة حمير، وقيل بلغة مراد، وقال بعضهم‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألا أبلغْ بني عصم رسولاً *** فإني عن فتاحتكم غنيُّ

وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ إن كل نبي أراد الله هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها‏:‏ تعال أفاتحك أي أحاكمك، وقوله ‏{‏على الله توكلنا‏}‏ استسلام لله وتمسك بلفظه وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏‏.‏